فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بآياتنا}
مع وضوحها {واستكبروا عَنْهَا} أي عن الإيمان بها والعملِ بمقتضاها {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء} أي لا تُقبل أدعيتُهم ولا أعمالُهم أو لا تعْرُج إليها أرواحُهم كما هو شأنُ أدعيةِ المؤمنين وأعمالِهم وأرواحِهم والتاء في {تُفتّح} لتأنيث الأبواب على أن الفعلَ للآيات، وبالياء على أنه لله تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل في سَمّ الخياط} أي حتى يدخُلَ ما هو مثلُه في عِظَم الجِرْم فيما هو عَلمٌ في ضيق المسلَك وهو ثُقبةُ الإبرة، وفي كون الجملِ مما ليس من شأنه الولوجُ في سمِّ الإبرة مبالغةٌ في الاستبعاد. وقرئ {الجُمّل} كالقمّل والجُمَل كالنُغَر والجُمل كالقُفل والجَمَل كالنصَب والجَمْل كالحبل وهي الحبلُ الغليظ من القنب وقيل: حبلُ السفينة، و{سُمّ} بالضم والكسر وقرئ {في سَمّ المَخيط} وهو الخِياط أي ما يُخاط به كالحِزام والمحزم {وكذلك} أي ومثلَ ذلك الجزاءِ الفظيع {نَجْزِى المجرمين} أي جنسَ المجرمين وهم داخلون في زُمرتهم دخولًا أوليًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بآياتنا}
الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدته والدالة على النبوة والمعاد ونحو ذلك {واستكبروا عَنْهَا} أي بالغوا في احتقارها وعدم الاعتناء بها ولم يلتفتوا إليها وضموا أعينهم عنها ونبذوها وراء ظهورهم ولم يكتسوا بحلل مقتضاها ولم يعملوا به {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ} أي لأرواحهم إذا ماتوا {أبواب السماء} كما تفتح لأرواح المؤمنين.
أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحًا قال: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان فيقال: مرحبًا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أدخلي حميدة وأبشري روح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة وإذا كان الرجل سوأ قال: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث أخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان فيقال: لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر» والأخبار في ذلك كثيرة.
وقيل: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم أبواب السماء.
وروي ذلك عن الحسن ومجاهد.
وقيل: لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم.
وروي ذلك عن ابن جريج.
وقيل: المراد لا يصعد لهم عمل ولا تنزل عليهم البركة.
وكون السماء لها أبواب تفتح للأعمال الصالحة والأرواح الطيبة قد تفتحت له أبواب القبول للنصوص الواردة فيه وهو أمر ممكن أخبر به الصادق فلا حاجة إلى تأويله.
وكون السماء كروية لا تقبل الخرق والالتئام مما لا يتم له دليل عندنا.
وظاهر كلام أهل الهيئة الجديدة جواز الخرق والالتئام على الأفلاك.
وزعم بعضهم أن القول بالأبواب لا ينافي القول بامتناع الخرق والالتئام وفيه نظر كما لا يخفى.
والتاء في {تُفَتَّحُ} لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها لا لكثرة الفعل لعدم مناسبة المقام.
وقرأ أبو عمرو بالتخفيف وحمزة والكسائي به وبالياء التحتية وروي ذلك عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم مع وجود الفاصل.
وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء الفوقية على أن الفعل مسند إلى الآيات مجازًا لأنها سبب لذلك.
وبالياء على أنه مسند إلى الله تعالى.
{وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة} يوم القيامة {حتى يَلِجَ} أي يدخل {الجمل} هو البعير إذا بزل وجمعه جمال وأجمال وجمالة ويجمع الأخير على جمالات.
وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال: هو زوج الناقة.
وعن الحسن أنه قال: ابن الناقة الذي يقوم في المربد على أربع قوائم وفي ذلك استجهال للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف.
والعرب تضرب به المثل في عظم الخلقة فكأنه قيل: حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم {فِى سَمّ الخياط} أي ثقبة الابرة وهو مثل عندهم أيضًا في ضيق المسلك وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه بل لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه.
وهي إنما تتعلق بالممكنات الصرفة.
والممكن الولوج بتصغير العظيم أو توسيع الضيق.
وقد كثر في كلامهم مثل هذه الغاية فيقولون: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يبيض القار وحتى يؤوب القارظان ومرادهم لا أفعل كذا أبدًا، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعكرمة.
والشعبي {الجمل} بضم الجيم وفتح الميم المشددة كالقمل.
وقرأ عبد الكريم وحنظلة وابن عباس وابن جبير في رواية أخرى {الجمل} بالضم والفتح مع التخفيف كنغر.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ {الجمل} بضم الجيم وسكون الميم كالقفل و{الجمل} بضمتين كالنصب، وقرأ أبو السمال {الجمل} بفتح الجيم وسكون الميم كالحبل، وفسر في جميع ذلك بالحبل الغليظ من القنب.
وقيل: هو حبل السفينة، وقرئ {فِى سَمّ} بضم السين وكسرها وهما لغتان فيه والفتح أشهر، ومعناه الثقب الصغير مطلقًا.
وقيل: أصله ما كان في عضو كأنف وأذن، وقرأ عبد الله: {فِى سَمّ} بكسر الميم وفتحها وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم والقناع والمقنع.
{تَتْبِيبٍ وكذلك} أي مثل ذلك الجزاء الفظيع {نَجْزِى المجرمين} أي جنسهم وأولئك داخلون فيه دخولًا أوليًا، وأصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة.
ويقال: أجرم صار ذا جرم كأتمر وأثمر، ويستعمل في كلامهم لاكتساب المكروه، ولا يكاد يقال للكسب المحمود. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} أي: لا تفتح لأعمالهم، ولا لدعائهم، ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله، أي: لا يقبل ذلك منهم لأنه ليس صالحًا ولا طيبًا، وقد قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه}، قال ابن عباس: أي: لا يرفع لهم منها عمل صالح، ولا دعاء. رواه جماعة عنه وقاله مجاهد وابن جبير.
أو المعنى: لا تنزل عليهم البركة والرحمة، ولا يغاثون، لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء، كما في قوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}، أو المعنى: لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة، على ما روي أن الجنة في السماء.
أو المعنى لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا، أبواب السماء، كما تفتح لأرواح المؤمنين. رواه الضحاك عن ابن عباس.
ورواه ابن جرير عن البراء: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر، وأنه يصعد بها إلى السماء، فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان! بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} الآية».
قال ابن كثير: هكذا رواه.
وهو قطعة من حديث طويل رواه الإمام أحمد مطولًا وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق.
تنبيهات:
الأول: قال الشهاب كون السماء لها أبواب، وأنها تفتح للدعاء الصالح، وللأعمال الصاعدة أ وللأرواح، وارد في النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، فلا حاجة إلى تأويل. انتهى.
وهذا على قاعدة أهل الظاهر في مثل ذلك، إلا أن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة، والتنزيل الكريم إنما ورد على مناحٍ للعرب معروفة في لسانهم. والله أعلم.
الثاني: التضعيف في تفتح، لتكثير المفعول، لا الفعل لعدم مناسبة المقام.
الثالث: قرئ بالتخفيف في {تفت}ح، وبالتخفيف، والياء، وقرئ على البناء للفاعل، ونصب {الأبوا}ب، على أن الفعل للآيات مجازًا، وبالياء على أنه لله تعالى.
{وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ} أي: يدخل: {الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} أي: ثقب الإبرة، وهو غير ممكن، فكذا دخولهم.
لطائف:
الأول: قرأ الجمهور {الجَمَل} بفتح الجيم والميم، وفسروه: بأنه الجمل المعروف وهو البعير.
قال الفراء: الجمل زوج الناقة، وقال شمر: البكر والبكر بمنزلة الغلام والجارية، والجمل والناقة منزلة الرجل والمرأة.
وقرئ في الشواذ {الجُمّل}، كسكَّر وصُرد وقُفل، وعُنق وجبْل بمعنى حبل السفينة الغليظ الذي يقال له القَلْس.
وقال أبو البقاء: يقرأ في الشاذ بسكون الميم، والأحسن أن يكون لغة، لأن تخفيف المفتوح ضعيف، ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها، وهو الحبل الغليظ، وهو جمع مثل صُوَّم وقُوَّم، ويقرأ بضم الجيم والميم مع التخفيف وهو جمع مثل أسَد وأُسُد، ويقرأ كذلك إلا أن الميم ساكنة، وذلك على تخفيف المضموم. انتهى.
وذكر الكواشي أن القراءات المذكورة كلها لغات في البعير، ما عدا جُمَّلًا كسُكَّر وقفل، ونوقش في ذلك. انتهى.
وقراءته كسُكَّر على معنى الحبل المذكور، رواها مجاهد وعكرمة عن ابن عباس، واختارها سعيد بن جبير.
قال الزمخشري: وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن الله أحسن تشبيهًا من أن يشبه بالجمل، أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه، إلا أن قراءة العامة أوقع، لأن سم الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال: أضيق من خَرْتِ الإبرة.
وقالوا للدليل الماهر خُرِّيت للإبتداء به في المضايق المشبهة بأخْرات الإبر، والجمل مثل في عظم الجرم، قال: جسم الجمال وأحلام العصافير.
إن الرجال ليسوا بجَزَر تراد منهم الأجسام، فقيل: لايدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدًا من ولوج هذا الحيوان الذي لا يلج إلا في باب واسع، وفي ثقب الإبرة.
وعن ابن مسعود: أنه سئل عن الجمل؟ فقال: زوج الناقة، استجهالًا للسائل، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. انتهى.
وحاصله أن الجمل لما كان مثلًا في عظم الجسم، لأنه أكثر الحيوانات جسمًا عند العرب، وخرق الإبرة مثلًا في الضيق، ظهر التناسب.
على أن في إيثار الجمل، وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة.
الثانية: السَّم: الثقب الضيق. قال أبو البقاء: بفتح السين وضمها، لغتان. انتهى.
وصح بالتثليث فيه، وفي القاتل المعروف، صاحب القاموس وغيره، إلا أنهم قالوا: المشهور في الثقب الفتح كما في التنزيل، والأفصح في القاتل الضم.
قال العلامة الفاسي: قال الزبيديّ: لم أر من تعرض لكسرهما، وكأنها عامية.
قلت: قال الزمخشري: وقرئ: {فيِ سَمِّ الْخيَاطِ} بالحركات الثلاث، وكفى به مرجعًا.
الثالثة: الخِياط ككِتاب ومِنبر، ما خيط به الثوب، والإبرة، كذا في القاموس.
قال الزمخشري: وقرأ عبد الله: {في سم المخيط}. قال الشهاب: بكسر الميم وفتحها، كما ذكره المُعرب، وهي قراءة شاذة.
الرابعة: قال السيوطي في الإكليل: في قوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} الخ، جواز فرض المحال، والتعليق عليه كما يقع كثيرًا للفقهاء. انتهى.
والتعليق على المحال معروف في كلام العرب، كقوله:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي ** وصار القارُ كاللبن الحليب

وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع {نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}. اهـ.